فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ويجوز أن يكون المعنى أوْلَى من المؤمنين.
وقال المهدويّ: وقيل إن معناه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُدعَين أمهات المؤمنين.
والله تعالى أعلم.
الخامسة: واختلف في كونهن كالأمهات في المَحْرَم وإباحة النظر؛ على وجهين: أحدهما: هنّ مَحْرَم، لا يحرم النظر إليهنّ.
الثاني: أن النظر إليهن محرّم، لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظًا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن، وكان من حفظ حقّه تحريمُ النظر إليهن؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنًا لأختها من الرضاعة، فيصير مَحْرَمًا يستبيح النظر.
وأما اللاتي طلقهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه: أحدها: ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبًا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: لا يثبت لهن ذلك، بل هن كسائر النساء؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن، وقال: «أزواجي في الدنيا هنّ أزواجي في الآخرة» الثالث: من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحَرُم نكاحها وإن طلقها؛ حفظًا لحرمته وحراسة لخلوته.
ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة؛ وقد همّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوّجت فقالت: لم هذا! وما ضرب عَليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابًا ولا سُمّيت أمّ المؤمنين؛ فكفّ عنها عمر رضي الله عنه.
السادسة: قال قوم: لا يجوز أن يُسَمَّى النبيّ صلى الله عليه وسلم أبًا لقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالكُمْ}.
ولكن يقال: مثل الأب للمؤمنين؛ كما قال: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم» الحديث خرجه أبو داود.
والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أبٌ للمؤمنين، أي في الحرمة، وقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالكُمْ} أي في النسب.
وسيأتي.
وقرأ ابن عباس: {منْ أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه}.
وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال: حُكمها يا غلام؟ فقال: إنها في مصحف أُبيّ؛ فذهب إليه فسأله فقال له أُبَيّ: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصَّفْق بالأسواق؟ وأغلظ لعمر.
وقد قيل في قول لوط عليه السلام {هَؤُلاء بَنَاتي} [الحجر: 71]: إنما أراد المؤمنات؛ أي تزوّجوهن.
وقد تقدّم.
السابعة: قال قوم: لا يقال بناته أخوات المؤمنين، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم.
قال الشافعيّ رضي الله عنه: تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة، ولم يقل هي خالة المؤمنين.
وأطلق قوم هذا وقالوا: معاوية خال المؤمنين؛ يعني في الحرمة لا في النسب.
الثامنة: قوله تعالى: {إلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْليَآئكُمْ مَّعْرُوفًا} يريد الإحسان في الحياة، والوصية عند الموت؛ أي إن ذلك جائز؛ قاله قتادة والحسن وعطاء.
وقال محمد بن الحنفيّة، نزلت في إجازة الوصية لليهوديّ والنّصرانيّ؛ أي يفعل هذا مع الوليّ والقريب وإن كان كافرًا؛ فالمشرك وَليّ في النسب لا في الدّين فيوصى له بوصية.
واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيًّا؛ فجوّز بعضٌ ومنع بعض.
وردّ النظر إلى السلطان في ذلك بعض؛ منهم مالك رحمه الله تعالى.
وذهب مجاهد وابن زيد والرّماني إلى أن المعنى: إلى أوليائكم من المؤمنين.
ولفظ الآية يَعْضُد هذا المذهب، وتعميم الوليّ أيضًا حسن.
وولاية النسب لا تدفع الكافر، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالموَدّة كوليّ الإسلام.
التاسعة: قوله تعالى: {كَانَ ذَلكَ في الكتاب مَسْطُورًا} {الْكتَاب} يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في كتَاب اللَّه.
و{مسْطُورًا} من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارًا.
وقال قتادة: أي مكتوبًا عند الله عز وجل ألاّ يرث كافرٌ مسلمًا.
قال قتادة: وفي بعض القراءة: {كَانَ ذَلكَ عنْدَ اللَّه مَكْتُوبًا}.
وقال القُرَظيّ: كان ذلك في التوراة.
قوله تعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} أي عهدهم على الوفاء بما حمّلوا، وأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدّق بعضهم بعضًا؛ أي كان مسطورًا حين كتب الله ما هو كائن، وحين أخذ الله تعالى المواثيق من الأنبياء.
{وَمنْكَ} يا محمد {وَمن نُّوحٍ وَإبْرَاهيمَ وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} وإنما خصّ هؤلاء الخمسة وإن دخلوا في زمرة النبيّين تفضيلًا لهم.
وقيل: لأنهم أصحاب الشرائع والكتب، وأولُو العزم من الرسل وأئمة الأمم.
ويحتمل أن يكون هذا تعظيمًا في قطع الولاية بين المسلمين والكافرين؛ أي هذا مما لم تختلف فيه الشرائع، أي شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أي كان في ابتداء الإسلام توارثٌ بالهجرة، والهجرة سبب متأكد في الدّيانة، ثم توارثوا بالقرابة مع الإيمان وهو سبب وكيد؛ فأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن في دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم المواثيق؛ فلا تُداهنوا في الدين ولا تمالئوا الكفار.
ونظيره: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين مَا وصى به نُوحًا إلى قوله وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فيه} [الشورى: 13].
ومن ترك التفرق في الدين ترك موالاة الكفار.
وقيل: أي النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم كان ذلك في الكتاب مسطورًا ومأخوذًا به المواثيق من الأنبياء.
{وَأَخَذْنَا منْهُمْ مّيثَاقًا غَليظًا} أي عهدًا وثيقًا عظيمًا على الوفاء بما التزموا من تبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضًا.
والميثاق هو اليمين بالله تعالى؛ فالميثاق الثاني تأكيد للميثاق الأوّل باليمين.
وقيل: الأوّل هو الإقرار بالله تعالى، والثاني في أمر النبوّة ونظير هذا قوله تعالى: {وَإذْ أَخَذَ الله ميثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مّن كتَابٍ وَحكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمنُنَّ به وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إصْري} [آل عمران: 81] الآية.
أي أخذ عليهم أن يعلنوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلن محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نبيّ بعده.
وقدّم محمدًا في الذكر لما روى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ} قال: «كنت أوّلَهم في الخلق وآخرَهم في البعث» وقال مجاهد: هذا في ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
قوله تعالى: {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ}.
فيه أربعة أوجه:
أحدها: ليسأل الأنبياء عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم؛ حكاه النقاش.
وفي هذا تنبيه؛ أي إذا كان الأنبياء يُسألون فكيف مَن سواهم.
الثاني: ليسأل الأنبياء عما أجابهم به قومهم؛ حكاه عليّ بن عيسى.
الثالث: ليسأل الأنبياء عليهم السلام عن الوفاء بالميثاق الذي أخذه عليهم؛ حكاه ابن شجرة.
الرابع: ليسأل الأفواه الصادقة عن القلوب المخلصة، وفي التنزيل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسلَ إلَيْهمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6].
وقد تقدّم.
وقيل: فائدة سؤالهم توبيخ الكفار؛ كما قال تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ للنَّاس} [المائدة: 116].
{وَأَعَدَّ للْكَافرينَ عَذَابًا أَليمًا} وهو عذاب جهنم. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} أزالَ اللّه بهذه الآية أحكامًا كانت في صدر الإسلام منها أن النّبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فذَكَرَ اللّهُ تعالى؛ أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يُحبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أكثرَ من نَفسه، حَسَبَ حديث عمر بن الخطاب، ويلزمُ أن يَمْتَثلَ أوامرَهُ، أحبت نفسُهُ ذلك أو كرهَتْ، وَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: «أَنَا أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ منْ تَرَكَ مَالًا فَلوَرَثَته، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًَا أَوْ ضيَاعًا فإلَيَّ وَعَلَيَّ، أَنا وَليُّهُ، اقرءوا إنْ شئْتُم: {النبي أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ}».
ت: ولفظ البخاريّ من رواية أبي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَا منْ مُؤْمنٍ إلاَّ وَأَنَا أولى به في الدُّنْيَا وَالآخرَة، اقرءوا إنْ شئْتُمْ: {النبي أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} فَأَيُّمَا مُؤْمنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا، فَإنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضيَاعًا، فَلْيَأْتني فَأَنَا مَوْلاَه». قال ابن العربيّ: في أحكامه: فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية. انتهى.
قال ع: وقال بعض العارفين: هو صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ لأنَّ أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك، وهو يدوعهم إلى النجاة.
قال ع: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَا آخُذُ بحُجَزكُمْ عَن النَّار، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُون فيهَا تَقَحَّمَ الفَرَاش». قال عياض في الشفا: قال أهل التفسير في قوله تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} أي: ما أنفذه فيهم من أمر؛ فهو ماضٍ عليهم؛ كما يمضي حكمُ السيد على عبده، وقيل اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى، وشَرَّفَ تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المُؤْمنينَ في المَبَرَّة وحُرْمَة النّكَاح، وفي مصحف أُبَيّ بن كعبٍ: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} وقرأ ابن عباس {منْ أَنْفُسهمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ} ووافقه أُبَيٌّ على ذلك. ثم حكم تعالى: بَأَن {أُولى الأرْحَام بَعْضُهم أولى ببعض} في التوارُث، مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوه الإسلام، و{في كتاب الله} يُحْتَمَلُ أَن يُريْدَ القُرْآن أو اللوح المحفوظ.
وقوله: {منَ المؤمنين} متعلق ب {أَوْلى} الثانية.
وقوله تعالى: {إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْليَائكُمْ مَّعْرُوفًا} يريدُ الأحسانَ في الحياة والصّلَة والوَصيَّة عند الموت والكتابُ المسطورُ: يحتَملُ الوجْهَين اللذين ذكرنا.
وقوله سبحانه: {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثاقهم} المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين، وهذا الميثاق.
قال الزجاج وغيره: إنه الذي أخذ عليهم وَقْتَ استخراج البَشَر من صلب آدم. كالذر، بالتبليغ وبجميع ما تَضَمَّنَتْهُ النبوَّة. وروي نحوُه عَنْ أُبَيّ بْنُ كعب.
وقالت فرقة: بل أشار إلى أَخذ الميثاق عليهم وَقْتَ بَعْثهم وإلقاء الرسالة إليهم، وذكر تَعَالَى النبيينَ جملةً، ثم خَصَّصَ أولي العَزْم منهم تشريفًا لهم، واللام في قوله: {لّيَسْئَلَ} يحتمل أن تَكونَ لاَم كَي، أو لامَ الصَّيْرُورَة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{النبى أولى بالمؤمنين منْ أَنْفُسهمْ} أي في كلّ أمرٍ من أمور الدّين والدُّنيا كما يشهدُ به الإطلاقُ فيجبُ عليهم أنْ يكونَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أحبَّ إليهم من أنفسهم وحكمُه أنفذَ عليهم من حكمها وحقُّه آثرَ لديهم من حقوقها وشفقتُهم عليه أقدمَ من شفقتهم عليها. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أراد غزوةَ تبوكَ فأمرَ الناس بالخُروج فقال أنسٌ نستأذنُ آباءَنا وأُمَّهاتنا فنزلتْ. وقُرئ وهو أبٌ لهم أي في الدّين فإنَّ كلَّ نبيَ أبٌ لأمَته من حيثُ إنَّه أصلٌ فيما به الحياة الأبدية ولذلك صار المؤمنون إخوةً {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلَة الأمَّهات في التَّحريم واستحقاق التَّعظيم، وأما فيما عَدا ذلك فهنَّ كالأجنبيات، ولذلك قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: لسنا أُمَّهات النّساء {وَأُوْلُو الارحام} أي ذُوو القرابات {بَعْضُهُمْ أولى ببَعْضٍ} في التَّوارث وهو نسخٌ لما كان في صدر الإسلام من التَّوراث بالهجرة والمُوالاة في الدّين {فى كتاب الله} في اللَّوح أو فيما أنزلَه وهو هذه الآيةُ أو آيةُ المواريث أو فيما فرضَ الله تعالى: {منَ المؤمنين والمهاجرين} بيانٌ لأولي الأرحام أو صلةٌ لأُولي أو أولُو الأرحام بحقّ القرابة أَولى بالميراث من المؤمنينَ بحقّ الدّين ومن المهاجرينَ بحقّ الهجرة {إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلى أَوْليَائكُمْ مَّعْرُوفًا} استئناءٌ من أعمّ ما تُقدَّرُ الأولويَّةُ فيه من النَّفع. والمرادُ بفعل المعروف التَّوصيةُ أو منقطع {كَانَ ذلك في الكتاب مَسْطُورًا} أي كان ما ذُكر من الآيتين ثابتًا في اللَّوح أو القُرآن. وقيل في التَّوراة. {وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} أي اذكُر وقتَ أخذنا من النبيينَ كافَّةَ عهودهم بتبليغ الرّسالة والدُّعاء إلى الدّين الحقّ {وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} وتخصيصُهم بالذّكر مع اندراجهم في النبيّينَ اندراجًا بينًا للإيذان بمزيد مزيَّتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشَّرائع وأساطين أولي العزم من الرُّسل. وتقديمُ نبيّنا عليهم الصَّلاة والسَّلام لإبانة خطره الجليل {وَأَخَذْنَا منْهُمْ ميثاقا غَليظًا} أي عهدًا عظيمَ الشَّأن أو مُؤكَّدًا باليمين، وهذا هو الميثاقُ الأولُ بعينه وأخذُه هو أخذُه. والعطفُ مبنيٌّ على تنزيل التغاير العنوانيّ منزلَة التغاير الذَّاتيّ تفخيمًا لشأنه كما في قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَليظٍ} إثرَ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُوا مَعَهُ برَحْمَةٍ مّنَّا}.
وقولُه تعالى: {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} متعلقٌ بمضمرٍ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان ما هو داعٍ إلى ما ذُكر من أخذ الميثاق وغاية له لا بأخذنا فإنَّ المقصودَ تذكيرُ نفس الميثاق ثمَّ بيانُ الغرض منه بيانًا قصديًَّا كما ينبىءُ عنه تغييرُ الأسلوب بالالتفات إلى الغَيبة أي فعل الله ذلك ليسألَ يومَ القيامة الأنبياءَ، ووضعَ الصَّادقينَ موضعَ ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنَّهم صادقون فيما سُئلوا عنه وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضيه أي ليسألَ الأنبياءَ الذين صدقُوا عهودَهم عمَّا قالُوه لقومهم أو عن تصديقهم إيَّاهم تبكيتًا لهم كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجبْتُمْ} أو المصدّقين لهم عن تصديقهم فإنَّ مصدّقَ الصَّادق صادقٌ وتصديقَه صدقٌ وأما ما قيل: من أنَّ المعنى ليسأل المؤمنينَ الذين صدقُوا عهدَهم حين أشهدَهم على أنفسهم عن صدقهم عهدَهم فيأباهُ مقامُ تذكير ميثاق النبيينَ. وقولُه تعالى: {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَابًا أَليمًا} عطفٌ على ما ذُكر من المضمر لا على أخذَنا كما قيلَ. والتَّوجيه بأنَّ بعثةَ الرُّسل وأخذَ الميثاق منهم لإثابة المؤمنينَ أو بأنَّ المعنى أنَّ الله تعالى أكَّد على الأنبياء الدَّعوةَ إلى دينه لأجل إثابة المُؤمنينَ تعسُّفٌ ظاهرٌ مع أنَّه مفضٍ إلى كون بيان إعداد العذاب الأليم للكافرينَ غيرُ مقصودٍ بالذَّات نعم يجوزُ عطفُه على ما دلَّ عليه قولُه تعالى: {ليسألَ الصَّادقينَ} كأنَّه قيل: فأثابَ المؤمنينَ وأعدَّ للكافرينَ الآيةَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{النبى أولى بالمؤمنين} أي أحق وأقرب إليهم {مّنْ أَنفُسهمْ} أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها أما أمارة بالسوء وحالها ظاهرًا أولًا فقد تجعل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلى الله عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس، وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينًا أو ضياعًا فليأتني فأنا مولاه» ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 9 2] لأن إفادة الآية المدعى على الظاهر ظاهرة أيضًا، وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وسبب نزول الآية على ما قيل ما روى من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم: نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت، ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفًا {وأزواجه أمهاتهم} أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وإرثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات، وفرع على هذ القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء، وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله تعالى عنها لامرأة قالت لها يا أمه: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد، وابن المنذر، والبيهقي في سننه عنها، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضًا.